ثمة في "إحدى عشرة دقيقة"(*) ما يجعلك تتوق الى الانزواء. مرة اخرى يعرّينا باولو من لباس التمدّن، مسلطاً الضوء على تلك المادة الحية، الساخنة، النابضة فينا، وعلى رغباتنا الصافية ومخاوفنا المربكة وترددنا الخاضع.
"كان يا ما كان" بداية سحرية لقصة أميرة تسكن عالم الخيال، يكسرها باولو كويلو في "احدى عشرة دقيقة": "كان يا ما كان... عاهرة اسمها ماريا". كأنه يبغي ان يقول لنا كما قال لأحد المعجبين بكتاباته: هذا ليس كتاباً يجعلكم تحلمون، إنه في كل نزاهة "واقع"، فالاميرة النائمة في انتظار حبيبها نامت في الواقع بين أحضان سواه... كي تقوى على الانتظار!
تجتاحنا مع قراءة رواية كويلو الجديدة رغبة في الاختفاء، ليس لأن موضوع الرواية هو الجنس، وقد أضحى في رأي الكاتب مرادفاً لكل ما هو مدنس، بل لأن تلك الحميمية التي كشفها كويلو تحرر مكنونات النفس، ترهب وتريح في آن واحد.
هل يمكن الرجل ان يدخل عالم امرأة في أصغر تفاصيله الروحية والجسدية؟ وهل يسعه ان يفك كل رموزها على نحو افضل مما يسعها هي نفسها ان تقرأ نفسها.
الواقع ان هذه الرواية ليست من صنع الخيال، بل هي رواية امرأة (بغي) برازيلية عاشت ما عاشته لتعود وتقصّه على "الخيميائي" باولو كويلو.
هل الرجال، حتى اكثرهم دقة ملاحظة، في حاجة الى عبور قناة مترجم ليدخلوا عالم المرأة؟
لطالما رأيت ان الانسان مزيج مختلف النسب من "رجل" و"امرأة". وهذه الرؤية تظهر جلية في رواية كويلو. أتراه كان أفلاطون على حق عندما رسم صورة الانسان الاول الذي لم يتحول رجلاً وامرأة الا بعدما شطرته الآلهة نصفين!
إنها قصة حقيقية قرأها كويلو ليكتبها، رغم أنها في تعبيره قصة محورها الجنس وحياة بائعات الهوى، وهي في الواقع قصتان في واحدة، مسرحية ثنائية الفصل يختلف الممثلون فيها، الا وجه البرازيلية. ماريا الشفافة التي وقعت في الحب بقوة ففزع قلبها الصغير وأغفلت تلبية ندائه ارتباكاً وخوفاً. لكنها ندمت. إنها حبيسة المجتمع التقليدي حيث الكبت المتوارث. لم تكن مستعدة للصدمة الاولى، لذاك الدفق الروحي القوي فجزعت منه وفقدته، حتى اكتشفت في انبهار جسدها وتأثيرها على الرجال، في شعور دافق بالقوة. سلاح صعب على فتاة قليلة الخبرة.
المشهد الاول، ماريا الخارجة من تجربة حب لم تبدأ مع الحبيب المثالي على طريق المدرسة. الممثلون المساعدون، صديقات تافهات، ضاحكات، ثرثارات، أب وأم تقليديان. ماريا التي اكتشفت نظرات الرجال بعدما اكتشفت جسدها وقلبها، اكتشفت قوتها الاخرى.
المشهد الثاني، تخرج ماريا من قوقعتها لتختبر انوثتها المكتشفة، فيكتشفها من يبحث فيها عن فرصة. تقع في التجربة؟ بل تطير اليها، الى سويسرا، بلد الوفرة والشوكولا والبرد الذي يحتاج الى دفء فتاة برازيلية. الشخصيات مختلفة، القوّاد، العاهرات، امينة المكتبة (الغارقة في عالمها والمحرومة)، ويطل خيال الرسام حاملا حنانا وعطفا وبصيرة ترى نور ماريا. وتظل ماريا في هبوطها حتى تكاد هاوية السادية والمازوشية تبتلعها. لكن تجربة الألم المطهّر لا تختبرها الا بما كان سبب سقوطها: الحب. انها قصة حب اذن، ام قصة بائعة الهوى في "بلد الساعات"؟ وقعت ماريا في التجربة لأنها لم تقرر الخروج منها، بل اسدلت عينيها ودخلت باب الحانة لتبيع الهوى وتصطاد رغبات الرجال التي تدوم "احدى عشرة دقيقة". لكن حب الرسام ينتشلها لنشوة من نوع آخر وألم آخر. وامام الاختيار الاخير يمسك بيدها الامير الذي جاء متأخرا. عالم باولو كويلو لا يحتمل الأبيض والاسود بل اطيافاً من الرمادي، رغم انه يرفض الاقرار بذلك. كويلو الخيميائي يحول كوابيسنا الى احلام، ويسطع الضوء في آخر النفق.
يهبنا الروائي، رغم كل شيء، نهاية سعيدة لحياة بغي.