الفراق .

موضوع: الفراق . 31.01.08 23:22

في المطار الصف طويل متعرج .. والكل يحمل هموم الفراق ومتاعب السفر ..
أمامي كان يقف رجل شارد الذهن .. مشوش الفكر .. غير منتبه إلى تحرك الصف .. ألكزه بيدي كي يتحرك كان الليل والضباب كثيفين في الخارج .. رغم الأضواء التي بدت باهتة ..
اقتربت من باب الخروج .. أحمل في يدي حقيبتي الصغيرة .. لايعطل مسيرتي سوى ذلك الرجل الشارد . . تردد في إعطاء الضابط أوراقه وتذكرة سفره .. تفحصه الضابط بشيء من التوجس .. تطاولت برأسي لأرى وجه ذلك الرجل .. كان يضع نظارة قاتمة اللون على عينيه .. بللها رذاذ المطر .. رغم أن السماء لم تمطر !!
كنت في البدء أتعجب من كثرة التفاتاته خلفه .. لكني وبفضول تطلعت إلى الخلف مثله لأجد حاجزاً زجاجياً يفصلنا عن المودعين في رواق كبير .. وامرأة تتكوم داخل جسد نحيل تحمل طفلاً صغيراً وحولها طفلان متعلقان بثوبها .. ترقب المسافرين .. يجلدها الشوق .. كلوم كثيرة تملأ قلبها .. وهي تحاول أن تلملم رماد جأشها . . لحظات مسننة تمضي بين الوجوه ومعاول على الصدور تهبط وهي تطمر لحظات الوداع ..
حين خطا الرجل خارجاً من الصالة الكبيرة التفتَ نحوها .. من خلال العالم الزجاجي الفاصل بينهما .. يطالع وجهاً ألفه زمناً .. شارداً على سطح الليل الطويل .. يسلب منه اتجاهاته ودروبه .. تنبّه على صوت المضيفة وهي تعلن عن قيام الرحلة ( على السادة المسافرين مغادرة القاعة والتوجه إلى الطائرة ..)
اتجهت الحافلة نحو الطائرة .. وصعدنا درجات السلم وماهي إلا لحظات وكنا في قلب الطائرة .. جاء مقعدي ملاصقاً لمقعده .. ابتعدت بنظري خارج نافذة الطائرة وهي تواجه الأفق .. الأضواء ظهرت من بعيد باهتة قاتمة .. ركنت رأسي إلى الجدار الداخلي في محاولة استرخاء قليلة .. تسمرت عيناي على يديه وهما ترتعشان ارتعاشة خفيفة .. إنه كمرجل يغلي فيه الماء وليس هناك منفذ لبخاره المتكاثر ..
تنبهنا على صوت المضيفة وهي ترحب بنا .. ثم ساد صمت رازح ثقل على القلوب والأفواه .. ثم عادت المضيفة تعلن وجوب ربط الأحزمة وإقفال الجوالات ..
لكنه يبدو أنه لم يسمع المضيفة أو أنه لم يع ماقالت .. ثم رأيت دموعه تتساقط على ركبتيه .. فربّتُ على كتفه مهدئاً إياه ..
لم أتمكن من حبس سؤال يمور في خاطري ..
- ماذا بك ؟
نظر إليّ عاتباً كأنه كان يتوقع من الجميع أن يشاركوه أحاسيسه ولم يتكلم وقد خنقته العبرات ..
انتبهت للنظرة البائسة في عينيه فتماسكت وقلت :
- لاعليك فالحياة مشوار طويل علينا أن نسافر من آن لآخر ..
وكأن كلامي هذا جاء بلسماً لجروحه وآلامه .. فتكلم ..
- الفراق .. !
وقبل أن يسترسل شعر بأبواب الطائرة وقد أخذت تنغلق إيذاناً بالإقلاع .. رأيته يتململ وقام نصف قومة ثم اندفع صوب الأبواب المقفلة : لا تغلقوا الأبواب ..
اشرأبت الأعناق .. تعلقت به العيون .. وهو يحمل صفارات مدوية تطلق داخله .. صدره يئج أجيجاً مفزعاً .. لحظات صارت بيننا دهراً مع تأزم في الموقف وتساؤل في الأعين اختلطت علي كل الأشياء ولم أعد أعرف كيف أفكر واجتاحني ذهول عظيم ..
تركته يقف ثم يمشي حثيث الخطى ثم ركض .. قمت من مقعدي صوبه وتابعته ومددت إليه يدي في محاولة لتهدئته .. انطفأت العلامات المضيئة أمامنا وهرول مسؤلو الطائرة بعد توقفها .. انطلق ليقطع سلاسله اللامرئية ليخرج من تلك اللحظة المسجونة .. وبخطى ثابتة تقدم نحو الباب في محاولة للقفز خارجه .. دماء حارة تسري في عروقه وقد بدت حمرة وردية تصبغ وجهه وهو يتصبب عرقاً ويحاول فك رباط عنقه .. وقد أصابت عينيه غشاوة ولم يعد يرى أبعد من موقع قدمه .. وهو يرى آماله وأحلامه تتبدد تحت القيد والطوق .. عبثاً يحاول استنشاق النسيم النقي فوق سطح البحر الصاخب .. !
ساد الصمت مدبب الأنياب والمخالب .. ووجم الكبار والصغار شعرنا أننا نهبط في شلال لحظات مجنونة .. ونغوص في مستنقع الذهول السرمدي ..
الغمامة التي تحجب الشمس لاتنقشع .. والضوء الخافت لايظهر الأشياء بوضوح فتظل كئيبة غامضة تاركة أثرها على الوجوه التي تحولت إلى تماثيل حجرية وقد تدلت الشفاه فيما يشبه البلاهة ..
لم أعد أعرف ما الذي يمكن أن اتخذه إزاء مايقع حولي .. وتقدمت منه وأنا أخفي ريبتي في سلوكه وسط تجمعات مضيفي الطائرة حوله .. قال كبيرهم في شيء من الهمس :
- تعال معي إلى الداخل ..
ومشيت في أثرهم إلى كابينة القيادة ..
وهنا استوقفني قائد الطائرة فأخبرته أننا أصدقاء .. !
أجلسوه على مقعد جلدي بجانبهم .. وتفحصوه بشيء من الفضول والدهشة وتبادلوا نظرات ذات مغزى .. وسألوه عن سبب عدوله عن السفر فجأة ودون أي مبررات ..
اهتزت شفتاه عن كلمات غير مفهومة وتمايل رأسه يمنة ويسرة فأسرع يسنده إلى الجدار الملاصق له ليمنعه من السقوط ..
أخذت تجري من فمه الكلمات الموجزة :
- الأولاد ..
كان يهتز في حركة غير متوافقة وهو يحاول أن يستقيم في جلسته محاولاً شرح كلمات تائهة , أحضروا له عصير ليمون بارد .. كاد يسقط من بين أصابعه المرتعشة بعد أن رشف رشفتين ..
بنبرات رزينة لاتخلو من البسمة تحدث قائد الطائرة :
- الغربة يا أخي معنا في كل مكان .. نحن غرباء حتى مع أنفسنا .. على الأرض .. فوق السحاب .. نحن غرباء في هذا الكون وما نحن إلا ذرات متناهية في الصغر وسط كون لامتناه وغير محدود ..
الحياة تحتاج للحركة وإلا مات الإنسان مكانه .. !
بهذا التناسق اللغوي والتشكيل الموسيقي لمعاني الكلمات الرشيقة أخذت الرؤوس تهتز وتتمايل لصدق عبارات قائد الطائرة .. وأكمل حديثه :
- اترك تلك الهواجس ..
( فل الحجاج وخل عنك الهواجيس ** كلٍ يموت وحاجته ماقضاها ) .. إن نزولك الآن من الطائرة معناه أنك ستوقع نفسك في متاهات ومساءلات قانونية وعواقب لاتحمد عقباها ..
رفع رأسه في استحياء واسترخاء وقد انكسر الضوء على عينيه فبدت صافية متألقة .. وتبادلنا النظرات التي تنفلت من مقطع إلى آخر في وجوهنا بارتياح ..
مرة أخرى أغلقت الأبواب .. وأطفأت الطائرة أنوارها وقد بدت خافتة .. وشددنا الأحزمة وأنا أربت على يده الباردة ..
دارت محركات الطائرة بقوة وأقلعت وقد تحولت إلى قطب يستجمع كل الأحلام والأماني .. !

[/center]

موضوع: رد: الفراق . 01.02.08 16:01

لا يستطيع لسانى ان يوصف ما بداخلى
الف شكر لك اخى عمر على الموضوع المذهل

بأنتظااار اجمل ما لديك

تقبل مروري

تحيــــــاتي

موضوع: رد: الفراق . 01.02.08 16:44

أسيرة الأحزان
ألف شكر لك على الحضور العطر والثناء الجميل
يومك سعيد يافاضلة

موضوع: رد: الفراق . 04.03.08 21:51

يسلمو اخ عمر

تحياتي

موضوع: رد: الفراق . 04.03.08 22:19

أهلا أخي محمد

سرني حضور يا بطل

ألف شكر أخي

موضوع: رد: الفراق . 05.03.08 6:33

يسلمووو على الموضوع
الله يعطيك العافيه
تحياتي

موضوع: رد: الفراق . 05.03.08 13:59

سكون الليل كتب:: يسلمووو على الموضوع
الله يعطيك العافيه
تحياتي

الله اسلمك ياسكون
شكرا جزيلا

» يوم الفراق
» ذلك هو الفراق !!!!!
» الفراق
» الم الفراق
» بداية الفراق...