للمحبة جسور أقامها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بين المؤمنين، ووصل قلوبهم بها. وقد ذكر ـ سبحانه وتعالي ـ هذه الجسور في كثير من المواضع في كتابه العزيز، كقوله:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات: الآية10) وقوله جلت قدرته : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: الآية103) ويقول تبارك اسمه :
( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63)
وقصر سبحانه وتعالي الولاية علي المؤمنين فقال: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )(التوبة الآية71) وقال سبحانه وتعالي: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:55/56)
وقد ذكر النبي صلي الله عليه وسلم جسور المحبة ـ أيضاً ـ فهو الذي أسسها وأرسى بناءها، ومد حبال الود في قلوب أتباعه إلي يوم الدين . قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم من حديث أبي هريرة : (( حق المسلم علي المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)).
فـن تأليف الأرواح
أستغرب من أمرنا في كثير من المواقع،عندما نجد الخلاف واقع بين أخواننا...وهم يعلمون كل العلم نبذ ديننا الحنيف لهذه الخلافات.
كيف يكون الفن في تأليف الأرواح:-
1- كظم الغيظ:
ذكر الله ـ عز وجل ـ في محكم كتابه أصول هذا الفن، وذكرها رسولنا عليه الصلاة والسلام بكلامه وبعلمه وبأخلاقه الشريفة العالية صلي الله عليه وسلم ، فقال المولى جلت قدرته: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران: الآية134).قال أهل السيرة: قام خادم علي هارون الرشيد بماء حار يسكب عليه، فسقط الإبريق بالماء الحار علي رأس الخليفة أمير المؤمنين.. حاكم الدنيا!! فغضب الخليفة، والتفت إلي الخادم.
فقال الخادم ـ وكان ذكياً ـ والكاظمين الغيظ!
قال الخليفة: كظمت غيظي..
قال: والعافين عن الناس!
فقال : عفوت عنك..
قال : والله يحب المحسنين.
فقال : اذهب فقد أعتقتك لوجه الله!!
2-نزع الغل والبغضاء:
في معركة الجمل خرجت عائشة وطلحة والزبير وغيرهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وخرج الصحابة معهم بالسيوف وخرج علي ـ رضي الله عنه ـ ومعه بعض الصحابة من أهل بدر ومعهم السيوف يلتقون! قيل لعامر الشعبي: الله أكبر! يلتقي الصحابة بالسيوف ولا يفر بعضهم من بعض قال: أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم من بعض! فلما قتل طلحة في المعركة وكان في الصف المضاد لعلي ـ نزل علي من علي فرسه وترك السف، وترجل نحو طلحة، ونظر إليه وهو مقتولـ وطلحة أحد العشرة المبشرين بالجنةـ فنفض التراب عن لحية طلحة وقال: يعز علي يا أبا محمد أن أراك علي هذه الحال، ولكن أسال الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم سبحانه وتعالي:
( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47).
فانظر إلي الصفاء ، والنقاء، وانظر إلي العمق، وانظر غلي الروعة! وهم يقتتلون، والدماء تسيل وعلي يحتضن طلحة ويسلم عليه ، ويذكره أنه سوف يجلس معه في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، حقاً إنه مشهد رائع، وأنموذج باهر.
مر علي ابن السماك صاحب له عتب عليه، فقال لبن السماك: غداَ نتحاسب ـ يعني غداً ألتقي معك أحاسبك وتحاسبني، وألومك وتلومني، ونعرف من هو المخطئ منا ـ فقال ابن السماك: لا والله، غداً نتغافر!
فالمؤمنون لا يتحاسبون ، ولا يقول أحدهم للآخر : أنت كتبت في كذا.. وقلت كذا، وسمعت أنك تغتابني.. و.. .. إلخ، لا .. هذا أسلوب خاطئ ، والصحيح أن يقول له: (( غفر الله لك)).
3-تحمل زلات الغير:ذكر الغزالي ـ صاحب الإحياء ـ أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ جاءه رجل فقال: يا أبا سعيد ، أغتابك فلان!، قال: تعال، فلما أتي إليه أعطاه طبقاً من رطب، وقال له اذهب إليه وقل له : أعطيتنا حسناتك، وأعطيناك رطباًً ! فذهب بالرطب إليه!
فالمقصود من هذا أن الدنيا أمرها سهل وهين، وأن بعض الناس يتصدق بحسناته ، فلا عليك مهما نالك حاسد، أو ناقم ، أو مخالف، أو منحرف! فاعتبر ذلك في ميزان حسناتك، واعلم أن ذلك رفعة لك.
وفي البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (( قال الله ـ تعالي ـ شتمني ابن آدم ، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له ! أما شتمه فقوله: إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني)).
فما دام أن الواحد الأحد ـ سبحانه وتعالي ، يسبه ويشتمه بعض الأشرار من خلقه ـ فكيف بنا نحن ، ونحن أهل التقصير؟!
إذا علم هذا فإنه خير دليل علي المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام ـ ورضي الله عنهم ـ فتراضوا واختلفوا كما يختلف البشر، وأتت بينهم نفرة في أيام من حياتهم! ولكنهم عادوا في صفاء، وفي عناق ، وفي صبور، وفي محبة؛ لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأ واحد، وليس مبادئ متعددة، فمبدؤهم: (( لا إله إلا الله محمد رسول الله)). وما حصل بينهم دليل علي أنهم لم يخرجوا عن بشرتهم، ولم يصبحوا ملائكة، ولم يخرجوا من عموم قوله صلي الله عليه وسلم : (( كل بني آدم خطاء)).
ولم يصبحوا كذلك صفحات بيضاء لا أثر فيها ولا نقيضة، كلا ما كانوا كذلك!
كانوا بشراً تعتمل في نفوسهم دوافع الشر، ويتحركون في الأرض بدوافع البشر، ولكنها دوافع البشر في اصفي حالاتها وأعلاها، دوافع البشر حين يتخففون إلي أقصي حد من ثلة الأرض ، فيصعدون أقصي ما يتاح للبشر من الصعود.
كانوا يعلمون.. فإذا هبطت بهم ثقلة عن المستوى السامق لم يستكينوا للهبوط، وإنما عادوا يعملون للصعود من جديد.. فيصعدون ويصعدون.
4- إنهاء الخصام والسعي إلي الصلح:
يروي أهل الحديث أن عامر الشعبي وهو من علماء التابعين المشهورين قام أمامه رجل وقال له كذبت يا عامر!
فقال عامر: إن كنت صادقاً فغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك!!
فماذا قال الرجل بعدها يا تري؟!
سكت !! لأن من استطاع أن ينهي الخصام، وأن يجعل للصلح موضعاً، وألا يستعدي الناس خاصة أهل الفضل وأهل المنزلة وأهل الصدارة والمكانة، كان محسناً علي نفسهن وعلي الإسلام ، وعلي المسلمين.
5-محاسبة النفس:
في مسيرة سالم بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أن رجلاً زاحمه في مني، فالتفت الرجل إلي سالم ـ وسالم علامة التابعين ـ فقال له : إني لظنك رجل سوء. فقال سالم: ما عرفني إلا أنت! لأن سالماً رضي الله عنه ـ يشعر في نفسه انه رجل سوء، وهذا صواب لأن المؤمن يرمي نفسه بالتقصير كلما رآها تعالت أو تطاولت أو نسيت، كما أنه يلوم نفسه ويحاسبها. لكن الفاجر والمنافق يزكي أما الناس!
6-قالوا في المثل:
(( من لك بأخيك كله)) تريد أخاً مهذباً كله، لا ، هذا لا يكون.. خذ بعضه، خذ نصفه ، خذ ثلثه، خذ ثلثيه.
فهل وجدت في المجتمع المسلم شخصاً ـ مهما بلغ من الرقي وحسن الخلق ـ أن يكون كاملاً، لا حيف فيه ولا نقص؟! كلا، هذا لا يكون
( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ )(النور: الآية21).
تجد هذا كريماً لكنه غضوب! وتجد هذا حليماً لكنه بخيل! وتجد هذا طيباً لكنه عجول! لأن الله وزع المناقب والمثالب علي الناس.
من ذا الذي ترضـــي سجاياه كلها
كفي المرء نبلاً أن تعد معايبه
فإذا عدت معايب الإنسان فاعلم أنه صالحن ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد معايبه أبداً مهما حاولت!!
وبعضهم لخيره وصلاحه، تقول: ليس فيه إلا كذا، وهذا هو الخير ، ومن غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام. ومن غلبت مساوئه محاسنه ، فهو المنحرف عن منهج الله ـ عز وجل ـ لن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاق النبي صلي الله عليه وسلم يقول تعالي:
( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الاحقاف:16)فبين الله في الآية أن لهم مساوئ ، وأنه يتجاوز عنهم ـ سبحانه وتعالي ـ وأن لهم خطايا النبي صلي الله عليه وسلم وأن لهم ذنوباً، ولكنهم كما يقول الحديث: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)).فبعض الناس ماؤه قليل.. أي شيء يؤثر فيه، قطرة تؤثر فيه! ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين، فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه، وبذله، وعطائه، وعلمه وسخائه، وفضله، ودعوته وخيره، وصلاحه، وصدق نيته غلي غير ذلك من الصفات. وهذا تأتيه أحياناً نزغات من نزغات الشيطان، لكنها لا تؤثر فيه.
قال ابن القيم:وإذا الحبيب أتي بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
ويقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فصاحب أخاك، وتحمل منه الزلة، واغفر له العثرة، وتجاوز عن خطئه.
وكان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان، فيه كذا وكذا من المحاسن، ويسكت عن المساوئ.
أمثلة تطبيقية:
مرت نماذج خيرة في حياته عليه الصلاة والسلام، سطرها أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ومن هذه النماذج:
-الخلاف بين بلال وأبي ذر:
فهذا أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ عير بلالاً بأمه، فشكاه بلال إلي النبي صلي الله عليه وسلم ثم ندم أبو ذر علي ما بدر منه من قول، فوضع خده علي التراب، وقال لبلال: والله لا أرفع خدي حتى تطأه بقدمك! فتعانقا وتصافحا.
فإنه ليس بيننا وبين أحد من الناس شجار لأسباب دنيوية، ولا لذواتنا، ولا لأنفسنا، فإن العبد عليه أن يسعى لمصلحة هذا الدين، ولمصلحة الأمة والبلاد والعباد، وأن يسعى لجمع الصف، ونبذ الفرقة، ودرء الفتن عن الأمة حتى تكون الأمة تحت مظلة:
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63) .
اللهم أعصمنا من الزلل، وأنقذنا من الخطل، وأخرجنا من الحادث الجلل.
اللهم انزع من قلوبنا الغل علي الأخوان،والضغينة علي الجيران،والحسد للأقران.
اللهم اغسل قلوبنا بماء اليقين،واسق أرواحنا من كوثر الدين،
وأثلج صدورنا بسكينة المؤمنين. سبحان ربك العزة عما يصفون،
وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلي الله وسلم وبارك علي نبينا محمد،
وعلي آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
- المصدر محاضرة للشيخ العلامة عايض القرني