أوّل الكلام
يضطر المرء عند بلوغه سن الرشد، أن ينـزل إلى معترك الحياة من هموم التعلم...
إلى اكتساب الخبرة، إلى سوق العمل، إلى إثبات الذات.
وفي سياق الاهتمامات، يشعر المرء بالحاجة- في سبيل إثبات الذات- إلى أن يكون رقماً في السوق، أو اسماً في مجال التعلم، أو علماً في مجالات المهنة والاختصاص.
يسعى إلى تكوين أسرة وبناء بيت.
يحرص الإنسان على تحقيق رغباته وإشباع حاجاته، وإرواء نهمه في مختلف الميول والتمنيات.
ويسعى إنسان آخر إلى رسم أهداف وآمال وتطلعات... إلى تحقيق الطموحات والآمال، مع عدم الإلتفات إلى لوازم ذلك؛ وأحياناً يلتفت إلى بعض هذه اللوازم و التبعات.
الواقع أن تفاصيل الحياة تأخذ بيد المرء إلى الإهتمام بصغائر الأمور، وصرف الجهد والعناء في تحقيقها وبلوغ مرامه منها. والذي يكون في حال أفضل، فإنه يرسم لنفسه مساراً، ويقوم بجدولة أيامه وأعماله، وفق ترتيب يوحي إليه بأنه إذا سلكه فسوف يؤدي به إلى بلوغ أهدافه.
يحاول أن يلتزم بهذا البرنامج، فيقدّم ما يرى أنّه يخدمه في طريقه إلى تحقيق الأهداف على الإهتمامات الأخرى، فيحاول هنا مراعاة حاجاته و ترتيبها بحيث تتجه به نحو غاياته، مدّعياً أن هذا هو الطريق الأسمى في سبيل تحقيق تلك الأهداف والغايات.
يصرف المرء عمره، وهو يهدر أيامه في سبيل ذلك، وقد يبلغ المرء في محطّات حياته الكثير من النجاحات، ويحقق الكثير من الأحلام.ولسوف يجد هذا الإنسان الكثير من الناس الذين يحترمونه، ويكيلون له الثناء، حتى يصل الأمر بالبعض إلى الشعور بالغيرة والغبطة لحاله, والبعض الآخر إلى أن يحسده على ما بلغه من علو الشأن والمكانة، بفضل نجاحه في مجالات حياته، وتحقيق الغايات التي كان يصبو إليها.
بيد أن المرء يظل غافلاً عن أهداف أبعد من حياته في هذه الدنيا، وعن غايات أسمى من تلك التي قضى
حياته يجهد في سبيل تحقيقها، وعن كمالات أقدس وأعظم من الكمالات التي توهم أنها أمثل ما يمكن تحصيله
يبلغ الإنسان آخر مراحل عمره، لتبدأ أسرار الحياة تتكشف أمامه، وليعلم -بعد فوات الأوان- أن الكثير مما سعى في سبيل تحقيقه في حياته صارفاً أهم وأثمن ما يملكه، ليس هو الذي يجب عليه إعطاؤه كل هذه الأهميّة
يقف الإنسان أمام كل الماضي، ليكون في أحسن أحواله راضياً عن حياته، لماذا؟ لأنه حقق فيها الكثير مما يريد.
بيد أنه عندما يواجه الموت وتأزف ساعة الرحيل، تواجهه الحقائق المرة، وتنتابه حسرة أبدية على ما فرّط في حياته الدنيا.
يعلم أنه كان في شراك نفسه، تخيط له على منوالها لباساً تريده أن يتقمصه، ويعي أنه وقع في حبال إبليس الذي كان يقعد له كل مرصد، ليؤدي به إلى تلك الحال التي أورثته الندامة.
يغفل الإنسان عن الحياة الدنيا التي يعيشها مرة واحدة، وهي الحياة التي يتحدد فيها مصيره الأبدي، ويغفل عن أن هناك كمالات عظيمة أعدت له يمكن له تحصيلها وبلوغها، ويرى الكثير من بركاتها في الحياة الدنيا، لكن ما أعده الرحمن الرحيم من قرة أعين له هو أعظم، ورضوان من الله أكبر
يغفل عن أن الفَلاح الحقيقي هو تحقيق الغاية التي خلقه الله من أجلها، لا تلك التي رسمتها مخيلته، وأن الفوز الحقيقي ليس هو ذلك الذي يحققه في الدنيا، بل ﴿...من زحزح عن النار وأدخل
الجنة فقد فاز...